فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

{قال نُوحٌ ربِّ إِنّهُمْ عصوْنِي واتّبعُوا منْ لمْ يزِدْهُ مالُهُ وولدُهُ إِلّا خسارا (21)}
شكاهم إلى الله تعالى، وأنهم عصوْه ولم يتّبعوه فيما أمرهم به من الإيمان.
وقال أهل التفسير: لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما داعيا لهم وهم على كفرهم وعصيانهم.
قال ابن عباس: رجا نوح عليه السلام الأبناء بعد الآباء، فيأتي بهم الولد بعد الولد حتى بلغوا سبع قرون، ثم دعا عليهم بعد الإياس منهم، وعاش بعد الطوفان ستين عاما حتى كثر الناس وفشوْا.
قال الحسن: كان قوم نوح يزرعون في الشهر مرتين، حكاه الماورديّ.
{واتبعوا من لّمْ يزِدْهُ مالُهُ وولدُهُ إِلاّ خسارا} يعني كبراءهم وأغنياءهم الذين لم يزدهم كفرهم وأموالهم وأولادهم إلا ضلالا في الدنيا وهلاكا في الآخرة.
وقرأ أهل المدينة والشام وعاصم {ولدهُ} بفتح الواو واللام.
الباقون {وُلْده} بضم الواو وسكون اللام وهي لغة في الولد.
ويجوز أن يكون جمعا للولد، كالفُلْك فإنه واحد وجمع.
وقد تقدّم.
{ومكرُوا مكْرا كُبّارا (22)}
أي كبيرا عظيما.
يقال: كبير وكُبار وكُبّار، مثل عجيب وعُجاب وعُجّاب بمعنى، ومثله طويل وطُوال وطُوّال.
يقال: رجل حسن وحُسّان، وجميل وجُمّال، وقراء للقارئ، ووضّاء للوضيء.
وأنشد ابن السِّكيت:
بيْضاء تصْطادُ القلوب وتسْتبِي ** بالحسن قلْب المُسْلِم القراء

وقال آخر:
والمرءُ يُلحِقُه بِفِتْيانِ النّدى ** خُلُقُ الكريم وليس بالوُضّاءِ

وقال المبرد: {كُبّارا} (بالتشديد) للمبالغة وقرأ ابن مُحيْصِن وحُميد ومجاهد {كُبارا} بالتخفيف.
واختلف في مكرهم ما هو؟ فقيل: تحريشهم سفلتهم على قتل نوح.
وقيل: هو تعزيرهم الناس بما أوتوا من الدنيا والولد، حتى قالت الضّعفة: لولا أنهم على الحق لما أوتوا هذه النعم.
وقال الكلبيّ: هو ما جعلوه لله من الصاحبة والولد.
وقيل: مكرهم كفرهم.
وقال مقاتل: هو قول كبرائهم لأتباعهم: {لا تذرُنّ آلِهتكُمْ ولا تذرُنّ ودّا ولا سُواعا ولا يغُوث ويعُوق ونسْرا}.
{وقالوا لا تذرُنّ آلِهتكُمْ ولا تذرُنّ ودّا ولا سُواعا ولا يغُوث ويعُوق ونسْرا (23)}
قال ابن عباس وغيره: هي أصنام وصُور، كان قوم نوح يعبدونها ثم عبدتها العرب وهذا قول الجمهور.
وقيل: إنها للعرب لم يعبدها غيرهم.
وكانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم، فلذلك خصُّوها بالذكر بعد قوله تعالى: {لا تذرُنّ آلِهتكُمْ}.
ويكون معنى الكلام كما قال قوم نوح لأتباعهم: {لا تذرُنّ آلِهتكُمْ} قالت العرب لأولادهم وقومهم: لا تذرُنّ ودّا ولا سُواعا ولا يغُوث ويعُوق ونسْرا، ثم عاد بالذكر بعد ذلك إلى قوم نوح عليه السلام.
وعلى القول الأول، الكلام كلّه منسوق في قوم نوح.
وقال عُروة بن الزبير وغيره: اشتكى آدم عليه السلام وعنده بنوه: ودٌّ، وسُواعٌ، ويغوثُ، ويعوقُ، ونسرٌ.
وكان ودّ أكبرهم وأبرّهم به.
قال محمد بن كعب: كان لآدم عليه السلام خمس بنين: ودّ وسُواع ويغوث ويعوق ونسر، وكانوا عُبّادا فمات واحد منهم فحزنوا عليه، فقال الشيطان: أنا أصوّر لكم مثله إذا نظرتم إليه ذكرتموه.
قالوا: افعل.
فصوّره في المسجد من صُفْر ورصاص.
ثم مات آخر، فصوّره حتى ماتوا كلهم فصوّرهم.
وتنقّصت الأشياء كما تتنقّص اليوم إلى أن تركوا عبادة الله تعالى بعد حين.
فقال لهم الشيطان: ما لكم لا تعبدون شيئا؟ قالوا: وما نعبد؟ قال: آلهتكم وآلهة آبائكم، ألا ترون في مُصلاّكم.
فعبدوها من دون الله، حتى بعث الله نوحا فقالوا: {لا تذرُنّ آلِهتكُمْ ولا تذرُنّ ودّا ولا سُواعا} الآية.
وقال محمد بن كعب أيضا ومحمد بن قيس: بل كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح، وكان لهم تبع يقتدون بهم، فلما ماتوا زيّن لهم إبليس أن يصوّروا صورهم ليتذكروا بها اجتهادهم، وليتسلّوا بالنظر إليها، فصوّرهم.
فلما ماتوا هُم وجاء آخرون قالوا: ليْت شِعْرنا! هذه الصور ما كان آباؤنا يصنعون بها!؟ فجاءهم الشيطان فقال: كان آباؤكم يعبدونها فترحمهم وتسقيهم المطر.
فعبدوها فابتدئ عبادة الأوثان من ذلك الوقت.
قلت: وبهذا المعنى فسّر ما جاء في صحيح مسلم من حديث عائشة: أن أمّ حبيبة وأمّ سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة تسمى مارية، فيها تصاوير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوْا على قبره مسجدا وصوّروا فيه تلك الصور أولئك شِرار الخلق عند الله يوم القيامة» وذكر الثعلبيّ عن ابن عباس قال: هذه الأصنام أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا في مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسمُّوها بأسمائهم تذكروهم بها، ففعلوا، فلم تُعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عُبدت من دون الله.
وذُكر أيضا عن ابن عباس: أن نوحا عليه السلام، كان يحرس جسد آدم عليه السلام على جبل بالهند، فيمنع الكافرين أن يطوفوا بقبره، فقال لهم الشيطان: إن هؤلاء يفخرون عليكم ويزعمون أنهم بنو آدم دونكم، وإنما هو جسد، وأنا أصوّر لكم مثله تطوفون به، فصوّر لهم هذه الأصنام الخمسة وحملهم على عبادتها.
فلما كان أيام الطوفان دفنها الطين والتراب والماء، فلم تزل مدفونة حتى أخرجها الشيطان لمشركي العرب.
قال الماورْدِيّ: فأما ودٌّ فهو أوّل صنم معبود، سُمي ودّا لودّهم له، وكان بعد قوم نوح لكلْب بدومة الجنْدل، في قول ابن عباس وعطاء ومقاتل.
وفيه يقول شاعرهم:
حيّاك ودٌّ فإنّا لا يحلّ لنا ** لهْوُ النساء وإن الدين قد عزما

وأما سُواعٌ فكان لهذيل بساحل البحر، في قولهم.
وأما يغُوثُ فكان لغُطيف من مُراد بالجوْف من سبأ، في قول قتادة.
وقال المهدوِيّ، لمُراد ثم لغطفان، الثعلبيّ: وأخذت أعلى وأنعم وهما من طيء وأهل جُرش من مذحج يغوث فذهبوا به إلى مراد فعبدوه زمانا.
ثم إن بني ناجية أرادوا نزعه من أعلى وأنعم، ففرّوا به إلى الحُصين أخي بني الحارث بن كعب من خُزاعة.
وقال أبو عثمان النّهْدِيّ: رأيت يغوث وكان من رصاص، وكانوا يحملونه على جمل أحْرد، ويسيرون معه لا يهيجونه حتى يكون هو الذي يبْرُك، فإذا برك نزلوا وقالوا: قد رضي لكم المنزل، فيضربون عليه بناء ينزلون حوله.
وأما يعُوق فكان لهمْدان ببلْخع، في قول عكرمة وقتادة وعطاء، ذكره الماورديّ.
وقال الثعلبيّ: وأما يعُوق فكان لكهْلان من سبأ، ثم توارثه بنوه، الأكبر فالأكبر حتى صار إلى همْدان.
وفيه يقول مالك ابن نمط الهمداني:
يريشُ الله في الدنيا ويبْرى ** ولا يبْرِي يعوقُ ولا يرِيشُ

وأما نسرٌ فكان لذي الكلاع من حِمْير، في قول قتادة ونحوه عن مقاتل.
وقال الواقديّ: كان ودٌّ على صورة رجل، وسُواعٌ على صورة امرأة، ويغوثُ على صورة أسد، ويعوقُ على صورة فرس، ونسرٌ على صورة نسْر من الطير، فالله أعلم.
وقرأ نافع {ولا تذرُنّ وُدّا} بضم الواو.
وفتحها الباقون.
قال الليث: ودٌّ (بفتح الواو) صنم كان لقوم نوح.
ووُدٌّ (بالضم) صنم لقريش، وبه سُمّي عمرو بن وُدّ.
وفي الصحاح: والودّ (بالفتح) الوتِدُ في لغة أهل نجد، كأنهم سكّنوا التاء وأدغموها في الدال.
والودّ في قول امرئ القيس:
تُظهِرُ الودّ إذا ما أشْجذتْ ** وتُوارِيهِ إذا ما تعْتكِرْ

قال ابن دُريد: هو اسم جبل: وودٌّ صنم كان لقوم نوح عليه السلام ثم صار لكلب وكان بدُومة الجنْدل، ومنه سمّوه عبد ودٍ وقال: {لا تذرُنّ آلِهتكُمْ} ثم قال: {ولا تذرُنّ ودّا ولا سُواعا} الآية.
خصّها بالذكر، لقوله تعالى: {وإِذْ أخذْنا مِن النبيين مِيثاقهُمْ ومِنْك ومِن نُّوحٍ} [الأحزاب: 7] {وقدْ أضلُّواْ كثِيرا} هذا من قول نوح، أي أضلّ كبراؤهم كثيرا من أتباعهم، فهو عطف على قوله: {ومكرُواْ مكْرا كُبّارا}.
وقيل: إن الأصنام {أضلُّوا كثِيرا} أي ضلّ بسببها كثير، نظيره قول إبراهيم: {ربِّ إِنّهُنّ أضْللْن كثِيرا مِّن الناس} [إبراهيم: 36] فأجرى عليهم وصف ما يعقل، لاعتقاد الكفار فيهم ذلك.
{ولا تزِدِ الظالمين إِلاّ ضلالا} أي عذابا، قاله ابن بحر.
واستشهد بقوله تعالى: {إِنّ المجرمين فِي ضلالٍ وسُعُرٍ} [القمر: 47] وقيل إلا خسرانا.
وقيل إلا فتنة بالمال والولد.
وهو محتمل.
قوله تعالى: {مِّمّا خطاياهُمْ أُغْرِقُواْ}
(ما) صلة مؤكدة، والمعنى من خطاياهم.
وقال الفرّاء: المعنى من أجل خطاياهم، فأدّت (ما) هذا المعنى.
قال: و(ما) تدل على المجازاة.
وقراءة أبي عمرو {خطاياهُمْ} على جمع التكسير، الواحدة خطيّة.
وكان الأصل في الجمع خطائيّ على فعائل، فلما اجتمعت الهمزتان قلبت الثانية ياء، لأن قبلها كسرة ثم استثقلت والجمع ثقيل، وهو معتلّ مع ذلك، فقلبت الياء ألفا ثم قلبت الهمزة الأولى ياء لخفائها بين الألفين.
الباقون {خطيئاتِهِمْ} على جمع السلامة.
قال أبو عمرو: قوم كفروا ألف سنة فلم يكن لهم إلا خطيّات، يريد أن الخطايا أكثر من الخطيّات.
وقال قوم: خطايا وخطيّات واحد، جمعان مستعملان في الكثرة والقلّة، واستدلّوا بقوله تعالى: {مّا نفِدتْ كلِماتُ الله} [لقمان: 71] وقال الشاعر:
لنا الجفناتُ الغُرُّ يلمعْن بِالضّحى ** وأسيافُنا يقْطُرْن مِن نجْدةٍ دما

وقرئ {خطيئاتهم} و{خطِيّاتِهم} بقلب الهمزة ياء وإدغامها.
وعن الجحْدرِيّ وعمرو بن عبيد والأعمش وأبي حيْوة وأشهب العقيلي {خطيئتِهِم} على التوحيد، والمراد الشرك.
{فأُدْخِلُواْ نارا} أي بعد إغراقهم.
قال القشيريّ: وهذا يدلّ على عذاب القبر.
ومنكروه يقولون: صاروا مستحقين دخول النار، أو عرض عليهم أماكنهم من النار، كما قال تعالى: {النار يُعْرضُون عليْها غُدُوّا وعشِيّا} [غافر: 46] وقيل: أشاروا إلى ما في الخبر من قوله: «البحر نار في نار».
وروى أبو روْق عن الضحاك في قوله تعالى: {أُغْرِقُواْ فأُدْخِلُواْ نارا} قال: يعني عُذِّبوا بالنار في الدنيا مع الغرق في الدنيا في حالة واحدة، كانوا يغرقون في جانب ويحترقون في الماء من جانب.
ذكره الثعلبيّ (قال): أنشدنا أبو القاسم الحبيبي قال أنشدنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن رُميح قال أنشدني أبو بكر بن الأنباريّ:
الخلق مجتمع طوْرا ومفْترِق ** والحادِثات فُنُونٌ ذاتُ أطوارِ

لا تعجبنّ لأضداد إِن اجتمعتْ ** فالله يجمع بين الماءِ والنارِ

{فلمْ يجِدُواْ لهُمْ مِّن دُونِ الله أنصارا} أي من يدفع عنهم العذاب. اهـ.